كتب زياد فرحان المجالي في يومٍ واحد، اختُصر المشهد كله بين جدارٍ مقدّس ومدينةٍ تحترق، بين دعاءٍ عند الحائط الغربي وصرخاتٍ في ميدان الرهائن، مرورًا بشوارع غزة التي عادت إليها الحياة من بين الرماد. رحلة الوفد الأمريكي بقيادة جاريد كوشنر وستيف ويتكوف لم تكن زيارة بروتوكولية باردة، بل مشهدًا مركّبًا من الدين والسياسة والعاطفة، كأنها محاولة لرسم خريطة جديدة للوجدان قبل أن تُرسم على الورق. عند الحائط الغربي: صلوات على جدار السياسة في المساء، وقف كوشنر وويتكوف أمام الحائط الغربي في القدس. المكان يحمل كل رمزية التقاء السماء بالأرض، حيث تتقاطع الصلوات القديمة مع الحسابات الحديثة. اقتربا من الحجارة ووضعا بين شقوقها قصاصات صغيرة، قيل إنها تحمل أمنيات بعودة الرهائن سالمين، وربما دعاءً بسلامٍ لن يأتي قريبًا. كان المشهد محسوبًا بدقة. أمام الكاميرات، أيدٍ مرفوعة، ودموع خفيفة تلمع في العيون، وإيفانكا ترامب تهمس في الخلف بدعاءٍ مكتوم. بدا الوفد الأميركي وكأنه يقدّم طقسًا سياسيًا بلباسٍ ديني، يوصل رسالة مزدوجة: أن واشنطن ما زالت الحَكم والوسيط، وأنها – رغم تبدّل الإدارات – قادرة على تحريك بوصلات الشرق الأوسط بالرمز أكثر من القرار. في تلك اللحظة، لم يكن أحد يتحدث عن غزة، لكن غزة كانت في قلب كل تفصيلة. فكل كلمة عن "السلام” كانت تُترجم في الميدان إلى سؤال واحد: هل سيتوقّف القصف؟ نحو غزة: مواجهة مع الدمار بعد ساعات من الصلوات، انتقل المبعوثان إلى غزة، برفقة رئيس أركان الجيش الإسرائيلي. كانت الزيارة صامتة، بلا تصريحات ولا شعارات. فقط نظرات طويلة إلى المدينة المهدّمة، حيث البيوت تسكنها الرائحة الثقيلة للبارود والتراب المحروق. وقف كوشنر على أنقاض مدرسة وسأل أحد الضباط: > "هل كانت هذه نقطة اشتباك؟” ردّ العسكري: "كانت حيًّا كاملًا.” عندها فقط تغيّر وجهه. ليس تعاطفًا كاملًا، بل دهشة من حجم ما يراه. كان المشهد أقوى من كل الصور التي بثّتها الشاشات: أبنية بلا جدران، شوارع بلا ملامح، ونهرٌ من الغبار يفيض من بين الأرصفة. رئيس الأركان شرح خطوط الانسحاب الجزئي، والممرات الإنسانية، وخطط الإعمار، لكن الحقيقة كانت واضحة: الدمار لا يُرمَّم بسهولة، والناس لم يعودوا ينتظرون قرارات، بل يبحثون عن مكانٍ يضعون فيه أطفالهم ليحتموا من المطر القادم. عودة الغزّيين: شباب بلا أقنعة وبينما كان الوفد يطوف على أطلال المدينة، كانت الحياة تعود وحدها من بين الركام. حين توقفت المدافع مؤقتًا، خرج أهل غزة من مخابئهم كمن يخرج من باطن الأرض إلى النور. عادوا إلى بيوتهم المهدّمة، إلى شوارعٍ محفورة بالقذائف، إلى مدنٍ أُعلنت ميّتة فعادت تنبض من جديد. كان المشهد أشبه بمعجزة يومية: شباب في العشرينات والثلاثينات، وجوه مكشوفة، بلا لثام، يحملون المعاول بدل البنادق، ويهتفون بالحياة بدل الشعارات. لم ينتظروا تصريحًا من أحد، ولم يسألوا عن الأمان. أحدهم كان يزيح الركام عن بيت والده، وآخر ينصب خيمة مكان بيته المحروق، وثالث يضحك وهو يقول للمصور: > "ما في شي اسمه بيت مهدوم… البيت ما بيوقع إلا إذا وقع أصحابه.” ذلك الإصرار الجماعي كان صرخة حقيقية أقوى من كل بيانات الحرب. لم يكن مجرد عودة، بل تحدٍّ صريح لفكرة الانكسار. غزة في تلك اللحظة لم تكن مدينةً منكوبة، بل مدرسة في الكرامة. رجالها بنوا من الركام مأوى، ونساؤها زرعن الشتلات بين الأنقاض، وأطفالها رسموا على الجدران المهدّمة بيوتًا جديدة. كل هذا جرى أمام عيون الوفد الأميركي، الذي أدرك أن هذه الأرض لا تُحكم بالقوة، بل تُحكم بالإرادة — وأن الخريطة الحقيقية تبدأ من الإنسان الذي يصرّ على الحياة. في ميدان الرهائن: بين الهتاف والسياسة وبينما كانت غزة تلملم ركامها، كان في تل أبيب مشهد آخر لا يقل رمزية. عشرات الآلاف تجمّعوا في ميدان الرهائن، الأعلام ترفرف، الصور مرفوعة، والأنين الجماعي تحوّل إلى غناء. حين صعد ويتكوف إلى المنصة، كان الميدان أشبه ببحر بشري يتنفس القلق والأمل معًا. قال ويتكوف أمام الحشد: > "إلى عائلات الرهائن... صبركم غيّر مجرى التاريخ.” ثم أشار إلى كوشنر الذي أضاف: > "نحن على أعتاب بداية جديدة، بإذن الله، لقد أنجزنا المرحلة الأولى.” ارتفعت الهتافات، وتعالت صيحات "Thank you Trump”، بينما التُقطت صور للوفد مع عائلات الأسرى. كانت الكلمات مدروسة: لا انتقاد صريح لنتنياهو، ولا تجاوز مباشر لحكومته، لكن الرسالة كانت واضحة — أن الإدارة الأميركية الجديدة هي التي أمسكت بخيوط اللعبة، وأن ما يجري من هدنة وتبادل ليس "منّة” من تل أبيب، بل ثمرة ضغطٍ دولي وإرادة شعبية. بين الجموع، رفع بعض الإسرائيليين لافتات تهاجم استمرار الحرب وتطالب بإعادة الأسرى "الآن”. هتف آخرون ضد نتنياهو، بينما صمت فريق ثالث خوفًا من انقسامٍ داخلي في لحظة فرحٍ مؤقتة. كان الميدان يشبه قلب إسرائيل وهو يخفق بتناقضاته كلها — الخوف، الغضب، الفخر، والإنهاك. ترامب الحاضر الغائب لم يحضر ترامب بنفسه، لكنه كان بطل الرواية في كل كلمة. كوشنر وصفه بـ"رجل السلام الذي وعد فأوفى”، وويتكوف قال: "من دون رؤيته لما وصلنا إلى هنا.” الحشود ردّدت اسمه أكثر من مرة، وكأنها تمنحه مكانة المنقذ. لكن خلف هذه الخطابات، كان هناك بعد آخر — ترامب أراد عبر مبعوثيه أن يثبت أن الصفقة هي انتصار أميركي لا إسرائيلي، وأن البيت الأبيض هو الذي يوزّع أدوار النصر، في حين يكتفي نتنياهو بالتصفيق من بعيد. ولذلك لم تكن الحشود احتفالًا فقط، بل أيضًا رسالة سياسية إلى الداخل الإسرائيلي: أن زمن الانفراد بالقرار انتهى، وأن الشارع صار يرى في واشنطن شريكًا في الخلاص، لا مجرد وسيط. لكن خلف التصفيق السياسي، كانت الصورة أعمق مما يُرى. ما وراء الصورة بين الحائط وغزة والميدان، تكرّرت صورة واحدة: الأمل المشوب بالوجع. في الحائط، الأمل بالدعاء. في غزة، الأمل بالإعمار. وفي الميدان، الأمل بعودة الغائبين. لكن الوجع ظلّ خلف كل لقطة. الدمار في غزة أكبر من أن يُغسَل بخطابات، وصور الأطفال الذين يبحثون عن ألعابهم بين الأنقاض أكبر من كل وعود السلام. حتى في الميدان، كان بعض الآباء يرفعون صور أبنائهم بعيونٍ لا تعرف هل تبكي أم تبتسم. الرحلة كلّها كانت محاولة لإعادة ترتيب المشاعر، لا الحقائق. الإسرائيليون احتفلوا لأنهم شعروا أن الكابوس انتهى، والغزّيون رجعوا إلى بيوتهم لأنهم يعلمون أن الكابوس لم ينتهِ بعد. أما الأميركيون، فحاولوا أن يضعوا بصمة بين الاثنين، ليقولوا للعالم إنهم كتبوا فصلاً جديدًا في تاريخ الشرق الأوسط. لكن الفصل الحقيقي ما زال في أيدي الذين لا يغادرون أرضهم مهما تغيّرت الرايات فوقها. : الشمس على سماء غزة في صباح اليوم التالي، كانت الشمس تشرق على غزة، كأنها تُكذّب فكرة "الانتهاء”. المدينة المرهقة تنفست بخجل، والبحر غسل بعض آثار الدخان. كوشنر وويتكوف غادرا المكان، لكن آثار الزيارة بقيت: كلمات على الحائط، خطوات فوق الركام، وصور في ميدان يضج بالهتاف. ربما كانت الرحلة كلها مشهدًا رمزيًا عن التناقض في هذا العالم: الذين يصلّون عند الحائط، والذين يُصلبون في بيوتهم. الذين يصفقون للسلام، والذين يدفنون أبناءهم تحت أنقاضه. ومع ذلك، تبقى غزة — بدمها، وصبرها، ووجوه شبابها المكشوفة — الطرف الوحيد الذي لا يحتاج إلى ميكروفون ليقول كلمته. يكفي أن تنظر إلى شمسها صباحًا، لتعرف أن الحقيقة — مثل الضوء — لا يمكن أن تُخفى. وهكذا، بين الحائط الذي كُتبت عليه الصلوات، والميدان الذي ارتفعت فيه الهتافات، تبقى غزة الجسر الذي يربط قداسة الحجارة بوجع الركام..
مشاهدة من الحائط إلى الميدان بين قداسة الحجارة ووجع الركام عاجل
يذكر بـأن الموضوع التابع لـ من الحائط إلى الميدان بين قداسة الحجارة ووجع الركام عاجل قد تم نشرة ومتواجد على قد تم نشرة اليوم ( ) ومتواجد علىجو 24 ( الأردن ) وقد قام فريق التحرير في برس بي بالتاكد منه وربما تم التعديل علية وربما قد يكون تم نقله بالكامل اوالاقتباس منه ويمكنك قراءة ومتابعة مستجدادت هذا الخبر او الموضوع من مصدره الاساسي.