نشيد الاستقلال التركي وصاحبه المنسي.. قراءة في مأساة محمد عاكف ...الشرق الأوسط

ترك برس - اخبار عربية
نشيد الاستقلال التركي وصاحبه المنسي.. قراءة في مأساة محمد عاكف

ترك برس

استعرض مقال للكاتب والسياسي التركي ياسين أقطاي، السيرة المأساوية للشاعر التركي الكبير محمد عاكف أرصوي، كاشفًا التناقض الصارخ بين مكانته بوصفه كاتب نشيد الاستقلال، وبين المعاملة التي تلقاها من الدولة التركية الناشئة.

    يتناول المقال السياق السياسي القاسي الذي أعقب تأسيس الجمهورية، حيث سادت أجواء القمع والرقابة ومحاكم الاستقلال، ما دفع عاكف إلى الهجرة القسرية نحو مصر هربًا من الملاحقة. كما يسلّط الضوء على تحوّله إلى موضع ريبة أمنية حتى بعد عودته المريضة إلى إسطنبول، حيث وُضع تحت المراقبة ورُمز له بملف استخباراتي مهين.

    ويقارن أقطاي مصيره بمصائر شخصيات فكرية وسياسية أخرى من المرحلة نفسها، ليخلص إلى أن إقصاء عاكف لم يكن استثناءً، بل جزءًا من مسار سياسي أقصى كل من لم ينسجم مع الخط الأيديولوجي الجديد، في مفارقة تاريخية جعلت شاعر الاستقلال غريبًا في وطنه.

    وفيما يلي نص المقال الذي نشرته صحيفة يني شفق:

    "لستُ مفارقاً للوطن، بل أهيم وأبكي كلاجئ في أرضي، في حزنٍ على فراقها ... تقول: أين أصحاب هذه الديار؟ لعلهم الجنّ! فتجيبك الجبال المقابلة: أين أصحاب الديار؟"

    إنّ التطوّرات التي أدخلت شاعرنا القومي في حالة نفسية يشعر فيها بالغربة داخل وطنه قد وقعت خلال فترة قصيرة للغاية. وفي نهاية المطاف، ولأجل الخروج من حالة الانقباض الخانقة التي خيّمت على روحه بسبب الجواسيس الذين كانوا يلاحقونه عام 1925، رحل إلى مصر ليقضي ١١ عاماً في حنينٍ إلى الوطن. والمفارقة أن الرجل نفسه هو من استهل نشيد الاستقلال الذي أهداه للأمة قبل سنوات قليلة بوعده القاطع: "لا تخف! لن تخبو هذه الراية التي ترفرفُ في فجرنا، قبل أن ينطفئ آخر موقد مشتعل فوق أرض الوطن".

    لم تنطفئ تلك المواقد المشتعلة في وطنه، ولن تنطفئ، لكن الشاعر الذي قطع هذا الوعد وجد نفسه، غريبًا مهاجرًا في وطنه.

    تلك الظروف التي جعلت الحياة في تركيا آنذاك لا تُطاق بالنسبة لمحمد عاكف، كانت تزداد قسوة ومرارة. وثمة من يتساءل: هل كان من الأفضل لو بقي؟ لو لم يرحل واختار طريق النضال داخل البلاد؟

    هناك من يتبنى هذا الرأي؛ فسعيد النورسي مثلاً لم يفر، بل سيق من نفي إلى سجن، ومن سجن إلى محكمة، معانياً الاضطهاد والتنكيل.

    ولم يفرّ كذلك إلماليلي حمدي يازر، بل كتب تفسيراً للقرآن. صحيح أن التفسير الذي طُلب منه إنجازه في السنوات الأولى للجمهورية، طُبع بأعداد محدودة للغاية، ولم يُوزّع تقريبًا ولم يُقرأ، غير أنه وجد الفرصة لكتابته. لقد حبس نفسه في منزله، إذا جاز التعبير، ولم يخرج أبداً. وربما كان يرى في القبعة التي كان يُفرض عليه ارتداؤها عند الخروج اعتداءً وعنفًا واحتلالًا لجسده.

    بالطبع، لم يكن الجميع محظوظين مثل هذين الرجلين؛ فقد أُعدم الشيخ عاطف الإسكيليبي في "محكمة الاستقلال" بذريعة رسالة (كتاب) كتبها قبل "ثورة القبعة" بعنوان "التقليد الإفرنجي والقبعة".

    كما أن رفاق مصطفى كمال في السلاح نالوا نصيبهم من حبال المشانق في محاكم الاستقلال. وحتى كاظم كارابكر، الذي "لولاه لما قامت حرب الاستقلال"، نجا من حبل المشنقة بأعجوبة. فقدوُجّهت إليه في كتاب "النطق" (خطاب أتاتورك الشهير) اتهامات مطوّلة، ولم يُمنح حينها حقّ الردّ عليها حتى . وعندما حاول ممارسة هذا الحق بعد خمس سنوات، صودر كتابه من المطبعة وأُحرق بيد الشرطة قبل أن يصل للقراء. كارابكر هو الرجل الذي استخدم مبادرته الخاصة ليعيد الاعتبار والصلاحيات لمصطفى كمال بعد عزله من كافة مهامه في أرضروم، وهو من أعاده إلى مسرح الأحداث من جديد.

    وإذا كنتم تعتقدون أنه لو لم يرحل محمد عاكف وبقي، لربما حظي بامتيازٍ ما بصفته شاعر "نشيد الاستقلال"، فما نوع الامتياز الذي كان سيحصل عليه أكثر مما ناله كاظم كارابكر مثلاً؟ لو بقي، لربما واجه مصيراً يشبه ما آل إليه حال كارابكر، أو الإسكليبي، أو سعيد النورسي. ولربما وجدنا أنفسنا اليوم، لا قدر الله، في مواجهة صدمة تاريخية إضافية لبلدٍ حكَم على شاعره الوطني بالإعدام، أو زجّ به في السجون، أو أذاقه صنوف المذلة والاضطهاد.

    حين ضاقت السبل بـ "عاكف" في تركيا، وبدأ الجواسيس يقتفون أثره، اختار الهجرة إلى مصر. وفي ظل ظروف ذلك الوقت، لم تكن مصر مكاناً يمكن فصله عن تركيا؛ أي أن الشاعر لم يهاجر خارج ديار العثمانيين، ولم يرحل إلى أوروبا أو أمريكا، بل كانت وجهته دياراً عثمانية أخرى هي مصر. بيد أن العصر كان قد دخل طور الدول القومية؛ فرغم أن مصر كانت المكان الذي يشعر فيه عاكف بأنه في بيته ووطنه، إلا أن الشوق لمرتع صباه كان شيئاً آخر. ومع أنه ظل يعدّ مصر وطناً له، إلا أن لوعة حنينه كانت تتجه صوب مسقط رأسه "إسطنبول". وبسبب ذلك الحنين الجارف، لم يعد يطيق صبراً للبقاء عشية رحيله ولو لعشرة أيام إضافية بعد إقامة استمرت أحد عشر عاماً، حتى خُيّل إليه أن رحلة السفينة التي استغرقت أربعة أيام كانت دهوراً من الزمن؛ فكلما اقترب اللقاء، ازداد الشوق اشتعالًا

    وعندما وصل إلى إسطنبول، كانت المفاجأة التي استقبلته دليلًا على مدى صواب قراره بالبقاء بعيدًا عن الوطن كلّ تلك السنوات. إذ عاد الجواسيس يلاحقونه من جديد. لقد عاد ليموت في دياره؛ فقد كان يُعلن للجميع أنّ أيامه باتت معدودة بسبب مرضه العضال، ومع ذلك ظلّت كلّ خطواته مراقبة، وصُنفت تحركاته في ملفات المخابرات تحت الرمز الكودي: "ارتجاع-906".

    وفور عودة "عاكف" إلى إسطنبول، استنفرت وزارة الداخلية، والمديرية العامة للأمن، وجهاز الاستخبارات، ورئاسة الأركان العامة، وولاية إسطنبول؛ حيث وضعت هذه الجهات -منفردةً ومجتمعة- تحركاته تحت الرقابة اللصيقة عبر مراسلات وتقارير مكثفة استمرت حتى وفاته. كانت التساؤلات تلاحقه في كل مكان: مع مَن يلتقي، وما الذي يتحدّث عنه، وهل لديه انتقادات أو مطالب أو ادعاءات أو أحاديث تتعلّق بالخلافة أو السلطنة.

    وقد جمع الصحفي البارز محرم جوشكون التقارير التي أُعدّت في تلك الفترة في كتابٍ بعنوان «الاسم الرمزي: ارتجاع– 906» (2014، بلدية زيتين بورنو)، حيث ضمّ فيه جميع الوثائق المتعلّقة بتلك المراسلات وعمليات التصنيف والتكويد. كما سبق للكاتب مراد بارداقجي أن تناول هذا الموضوع أيضًا. لقد لخصت تلك الحقبة صورة "محمد عاكف" في نظر الدولة آنذاك بهذا الرمز المهين: "ارتجاع-906".

    إننا اليوم ندرك جيداً ما حدث في تلك الأيام؛ فمحمد عاكف، الذي صاغ نشيد حرب الاستقلال ووضع خارطة معانيها الروحية، لم يحد عن تلك الخارطة أبداً. بيد أن السياسة التي هيمنت على البلاد هي التي انحرفت عن تلك الثوابت، وأقصت "عاكف" خارج حدودها.

    ولم تقتصر الرقابة على وجوده في الداخل، بل طاردته التقارير الاستخباراتية حتى أثناء إقامته في مصر، حيث كانت تُرسل إلى أنقرة تقارير دورية عنه، تماماً كما حدث مع رؤوف أورباي، وعبد المجيد، وشيخ الإسلام مصطفى صبري، وغيرهم ممن أُجبروا على مغادرة تركيا في تلك السنوات.

    كما تُظهر الوثائق التي كُشف عنها لاحقًا أنّ أورباي نفسه كان يخضع لمراقبة دقيقة للتحقّق مما إذا كان منخرطًا في أنشطة مؤيّدة للسلطنة والخلافة. ويُفهم من استمرار هذه المراقبة أنّ أدنى حركة معارضة في تلك الأيام لم تكن لتفلت من الرصد، ولذلك يمكن القول إنّ بعض التصريحات التي أُدلي بها آنذاك قد لا تكون دائمًا تعبيرًا صادقًا عن قناعات أصحابها. فإلى أيّ حدّ يمكن الاعتماد تاريخيًا على أقوال قيلت في بيئة تواصلٍ مشوَّهة تاريخياً؟

    وفي الختام، يتبادر إلى الذهن سؤال: لو قُدّر لضياء غوك ألب (الذي توفي في أكتوبر 1924) أن يعيش طويلاً، فأين سيكون موقعه؟

    إن غوك ألب، الذي لم يُطبع له كتاب واحد منذ وفاته وحتى عام 1940، كان يتبنى آراءً لا تتفق أبداً مع السياسة المتبعة في تلك الفترة؛ فمن يمكنه أن يتخيل ما قد يؤول إليه مصير لو بقي على قيد الحياة آنذاك؟

    مشاهدة نشيد الاستقلال التركي وصاحبه المنسي قراءة في مأساة محمد عاكف

    يذكر بـأن الموضوع التابع لـ نشيد الاستقلال التركي وصاحبه المنسي قراءة في مأساة محمد عاكف قد تم نشرة اليوم ( ) ومتواجد على ترك برس ( الشرق الأوسط ) وقد قام فريق التحرير في برس بي بالتاكد منه وربما تم التعديل علية وربما قد يكون تم نقله بالكامل اوالاقتباس منه ويمكنك قراءة ومتابعة مستجدادت هذا الخبر او الموضوع من مصدره الاساسي.

    التفاصيل من المصدر - اضغط هنا

    وختاما نتمنى ان نكون قد قدمنا لكم من موقع Pressbee تفاصيل ومعلومات، نشيد الاستقلال التركي وصاحبه المنسي.. قراءة في مأساة محمد عاكف.

    Apple Storegoogle play

    آخر تحديث :

    في الموقع ايضا :

    الاكثر مشاهدة في اخبار عربية


    اخر الاخبار